*التغيّر المناخي والإحتباس الحراري – مقدمة

بقلم: علي عطاري

Click here to read in English.

.تكتسب ظاهرة التغيّر المناخي إهتماماً متزايداً حول العالم. وقد بُذلت جهود عالمية لإحتواء هذه الظاهرة منذ فترة غير قصيرة ولكن دون تأثير فعّال. وحتى نتمكّن من تخفيف آثار التغيّر المناخي، علينا أن نفهم مسبباته ومؤثراته بشكل جيد

قبل ان نتعمق في التفاصيل، من المهم أن نمّيز بين "التغيّر المناخي" و"الإحتباس الحراري،" إذ كثيراً ما يتم الخلط بين المصطلحين. إن التعريف الحديث للإحتباس الحراري يشير إلى إرتفاع معدل درجات حرارة سطح الأرض الناتج عن التلوّث من أفعال بشرية تُنتج ما يُعرف بـ "غازات الإحتباس الحراري". أما التغيّر المناخي، فهو ظاهرة طبيعية تصف التغيّرات في أنماط المناخ للأرض التي قد تتفاقم بسبب الإحتباس الحراري والأفعال البشرية. إن هذه التغيّرات في أنماط المناخ قد تؤدي الى  زيادة في ظواهر الأحوال الجوية الشديدة مثل إرتفاع مستوى سطح البحر والأعاصير من المرتبة الخامسة

تشير البراهين الى ان الأرض قد مرّت بعدة تقلّبات مناخية أدت الى موجات مُبرّدة وأخرى مُسخّنة (وإننا نَمُر حالياً في موجة مسخّنة تعرف بالـ "هولوسين"). إن هذه الموجات غيّرت وجه الأرض جذرياً. فأمريكا الشمالية كانت تقريباً مغطاة كلياً بالجليد خلال العصر الجليدي الأخير، الذي يعود إلى 10000 إلى 11500 سنة مضت، وإن موجة الهولوسين الحالية ساهمت في معظم هذه الذوبانات التي ما تزال مستمرة. إن التغيّر المناخي الطبيعي طبعاً خارج عن سيطرتنا، لكنه يمر عبر دورات يمكن التنبؤ بها لحد ما من خلال معلومات تاريخية مختلفة مثل تحليل حلقات جذوع الأشجار ودراسة عينات جليدية

أُطلق على الأرض اسم "كوكب جولْدِلُكْس" – نسبة لحكاية القرن التاسع عشر "جولدلكس والدبب الثلاث،" وذلك لأن الأرض توفّر ظروف مناخية ملائمة للحياة البشرية، فهي ليست شديدة البرودة ولا شديدة الحرارة، وتحتوي على العناصر الأساسية للحياة مثل الماء. إن ظاهرة الإحتباس الحراري ظاهرة طبيعية أساسية لتحقيق حالة الـ "جولدلكس" هذه لأنها تُبقي درجة حرارة سطح الأرض حول مستويات تسمح بالحياة. والحقيقة أن معدل درجة حرارة سطح الأرض سينخفض الى ١٨ درجة مئوية تحت الصفر  لولا تأثير غازات الإنحباس الحراري (الذي سيُشرح أدناه). ولكن للأسف، ما نشهده اليوم هو إرتفاع استثنائي لتواجد غازات الإنحباس الحراري في الغلاف الجوي، وتشير غالبية الدراسات العلمية إلى أن النشاطات البشرية هي المُسبب الرئيسي لهذا الارتفاع

ان أثر ظاهرة الإحتباس الحراري مشابه لكيفية عمل البيوت البلاستيكية الزراعية. تتكوّن البيوت البلاستيكية الزراعية من مواد شفافة - زجاج أو بلاستيك في الغالب، وتخترقها أشعة الشمس لتصل الى المزروعات في داخلها. وحينما تنعكس هذه الأشعة، تفقد جزءاً من طاقتها لتصبح أشعة تحت الحمراء التي لا تمتلك ما يكفي من الطاقة للخروج من البيت البلاستيكي. وهذا يؤدي إلى بقاء البيت البلاستيكي دافئاً، مما يؤمّن بيئة مثالية لنمو النبات. إن العديد من الممارسات البشرية (أنظر إلى الشكل أدناه) تُطلق غازات الإحتباس الحراري مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان وغيرها. وتأخذ هذه الغازات دوراً مشابهاً لدور السطوح الشفافة في البيوت البلاستيكية الزراعية، إذ تعكس جزءاً من الأشعة تحت الحمراء الخارجة لتعود مجدداً إلى سطح الأرض، رافعة بذلك درجات حرارته. وطبعاً، كلما زادت جزيئات غازات الإحتباس الحراري في الغلاف الجوي، زاد هذا الأثر

 

وكما هو مُوضّح في المخطط الدائري أدناه، تساهم العديد من ممارستنا اليومية في زيادة الإحتباس الحراري. إن معظم النشاطات التي يبيّنها الشكل متوقعة، مع أن الكثيرين سيتفاجئون من أن قطاع الزراعة واحد من أكثر النشاطات الإقتصادية المسببة التلّوث. إن النشاطات المرتبطة بتربية المواشي (وخاصة النشاطات المتعلقة بصناعات مشتقات الحليب) وبزراعة المحاصيل (وبالذات تحويل الغابات الى حقول زراعية) هي من أكبر الملوثات في هذا القطاع. أما بالنسبة للإنبعاثات الصناعية، فإن معظمها تنتج عن إنتاج الطاقة في مواقع هذه الصناعات ومن عمليات إدارة المخلفات التي قد تحوي إنبعاثات كيميائية ناتجة عن العملية الصناعية. اما إنبعاثات قطاع النقل (وهو المسبب الأكبر للإنبعاثات في الأردن) فإنها تنتج عن إحتراق الوقود الأحفوري في مجالات النقل الجوي والبحري والبرّي. وأخيراً، فإن الأبنية، التي تستحوذ على أصغر نسبة في المخطط الدائري، فإنها تُنتج غازات الإنحباس الحراري من خلال إنتاج الطاقة في الأبنية والمرتبط بنشاطات مثل الطبخ وتدفئة المنازل  وتبريدها

لحسن الحظ، يمكننا كأفراد وكدول القيام بالكثير للتقليل من إنبعاثاتنا لغازات الإنحباس الحراري. وسنركّز على ما يمكن أن نقوم به لخفض الإنبعاثات في المدن حيث تعيش غالبية سكان العالم وبشكل متزايد

تهدف المؤتمرات والمعاهدات الدولية مثل مؤتمر الأمم المتحدة السنوي للتغيّر المناخي وإتفاقية باريس الى إلزام الدول المختلفة بتخفيض انبعاثات غازات الإنحباس الحراري حسب أهداف محددة. تعتمد دول مختلفة أساليب متعددة لتحقيق هذه الأهداف بناءً على نقاط قوتها وضعفها. فهناك دول قد تركّز جهودها على تطوير مصادر لإنتاج الطاقة المتجددة، وهناك دول قد تطبّق قوانين بيئية صارمة على قطاعات الصناعة والنقل، وهناك دول قد تركّز على ممارسات زراعية مستدامة. وإن الكثير من الدول طبعاً تطبّق مزيج من هذه الإستراتيجيات لتحقيق أهدافها. ولكن هذه المعاهدات غير مُلزمة قانونياً. ولم تتمكن العديد من الدول من تحقيق أهدافها، بينما انسحبت غيرها من هذه المعاهدات

يُنتج كل شخص ما يُسمّى بالأثر الكربوني، ويُمثل الأثر الكربوني كمية غازات الإنحباس الحراري التي يفرزها فرد أو مؤسسة أو نشاط ما بعد تحويل هذه الغازات الى ما يقابلها من غاز ثاني أكسيد الكربون. وهناك العديد من المواقع  www.carbonfootprint.com الإلكترونية التي تقوم بتقدير الأثر الكربوني للفرد مثل

 إننا بصفتنا سكان مدن نقوم بنشاطات متعددة تتطلب الكثير من الطاقة وتنتج كماً هائلاً من إنبعاثات غازات الإنحباس الحراري. لو تصوّرنا يوماً عادياً لشخص عادي من سكان عمّان، يمكننا التفكير فوراً بالعديد من النشاطات التي تتسبّب بإنبعاثات غازات الإنحباس الحراري. إن تسخين الماء وإستعمال السيارات الخاصة للتنقل وإستخدام الأدوات والمعدات الكهربائية المختلفة جميعها تساهم في هذه الإنبعاثات. إن التوقّف عن جميع هذه الأعمال لتخفيض إنبعاثاتنا طبعاً ليس خياراً عملياً، ولكن يمكننا النظر في بدائل تمكّننا من القيام بهذه النشاطات بدرجة أفضل من الإستدامة

هناك العديد من الوسائل التي تمكننا من تخفيض الإنبعاثات دون التضحية بأنماط حياتنا. فمثلاً يمكن تركيب ألواح الطاقة الشمسية لتشغيل الأدوات الكهربائية وتسخين الماء. ويمكن إستعمال وسائل النقل العام أو المشاركة في إستخدام السيارات بدلاً من أن يستخدم كل فرد سيارة خاصة. وكذلك يمكن جمع الرحلات المختلفة في رحلة واحدة بدلاً من القيام برحلات متعددة لقضاء الحاجات المختلفة. ومن النصائح المعروفة إطفاء المصابيح الكهربائية حين عدم إستعمالها وإستخدام الأدوات الكهربائية الموفرة للطاقة. ويمكننا أيضاً تحسين وسائل التخلّص من النفايات كما في الحد من كمية النفايات التي ننتجها وأيضاً الفصل بين النفايات القابلة لإعادة التدوير وتلك غير القابلة لإعادة التدوير. كل هذا يساهم في الحد من الإنبعاثات التي ننتجها

تتضمن مصادر الإنبعاثات التي كثيراً من نتغاضاها إستيراد البضائع من الخارج. إن شراء البضائع المنتجة محلياً يساعد في الحد من الإنبعاثات الناتجة عن نقل البضائع – هذا بالإضافة لتنمية الإقتصاد المحلي. إن بعض هذه التغييرات طبعاً تتطلب إستثمارات أولية، ولكن بعضها الآخر لا يتطلب إلا جهود شخصية بسيطة وإستخدام المنطق. وفي جميع الحوال، فإن الحد من الإنبعاثات بشكل فعّال ممكن المنال

إن ٩٦٪ من مصادر الطاقة في الأردن مستوردة، مما يعني أن أمن الطاقة في الاردن مهدد بإستمرار وأن أسعار الطاقة مرتفعة نسبياً. يستهلك قطاع النقل ٤٧٪ من اجمالي إستهلاك الطاقة في الأردن. إن هذه الأرقام وحدها يجب أن تحفزنا على بذل جهود مكثفة للحد من إستهلاكنا للطاقة. إن محدودية مصادر الطاقة المحلية كذلك يجب أن تدفع السلطات لبذل جهود إضافية لتنفيذ مشاريع تهدف إلى التوفير في إستهلاك الطاقة، خاصة في قطاع النقل. هناك مجال واسع للإصلاح والتطوير في قطاع النقل في الأردن، مما يسهّل من إمكانية تخفيض الإنبعاثات الناتجة عنه من خلال التحوّل إلى وسائل نقل أكثر إستدامة مثل النقل العام. وقد كنا أشرنا في مركز دراسات البيئة المبنية في دراسة سابقة إلى أن النقل العام ما يزال خارج قائمة أولويات الدولة في الأردن. إن الحاجة اليوم ملحة لنقلة نوعية في تعاملنا مع النقل العام. وإن الإستثمار في قطاع النقل العام هو إستثمار في الموارد البشرية وفي الإقتصاد وفي البيئة، ومن الواجب إعطاءه أولوية ضمن جهود محاربة التغيّر المناخي

يهدف هذا المقال الى زيادة الوعي بخصوص التغيّر المناخي وأدوار الأفراد والحكومات في الحد من إنبعاثات غازات الإحتباس الحراري. وكلما نما أي بلد، كلما أزدادت أهمية مساهمة سكان وحكومة هذا البلد في الجهود الرامية للحد من هذه الإنبعاثات. إن هذا سيساعد في توفير الأموال وأيضاً في تجنّب المشاكل المرتبطة بالتدهور البيئي

.تم تحضير هذا المقال بالتعاون مع مؤسسة فريدريش إيبرت، عمّان*